شعار قسم مدونات

ترجل الفارس النبيل.. وترك الأمل

رائد الفضاء محمد فارس المصدر: وكالة الفضاء الاتحادية الروسية
رائد الفضاء السوري محمد فارس (وكالة الفضاء الاتحادية الروسية)

ترجّل فارس الثورة والكرامة، الرجل النبيل بخلقه وطباعه، المتميز بفكره و علمه و حبه لوطنه. ترجل فارسنا وارتقى بصعوده الأخير إلى السماء، ارتقى إلى بارئه إلى دار البقاء، دار الحق والعدالة.

منذ صغره وحلم الفارس بالفضاء، وعندما كبر حقق حلمه بالصعود إلى الفضاء في الرحلة الفضائية السورية السوفيتية، التي أطلقت بتاريخ 22 يوليو 1987 في المركبة الفضائية SOYUZ – M3. واستغرقت سبعة أيام و23 ساعة.

أنجز هذا البطل في رحلته إلى الفضاء ثلاثة عشرة تجربة علمية، وعدة أبحاث في مجالات صناعية وجيولوجية وكيميائية وطبية، وفي الرصد الفضائي والاستشعار عن بعد. وانتظر عودته الملايين من السوريين والعرب بل من شعوب العالم، وسطر بطولة يشهدها له التاريخ.

حين كان يدعى لحضور المؤتمر الدولي السنوي لرواد الفضاء، كان يعاني الأمرين للحصول على الموافقات الأمنية، ابتداء من موافقة المخابرات العامة ومرورا بموافقة قائد القوى الجوية ورئيس الأركان ثم وزير الدفاع، نهاية بتوقيع رئيس الجمهورية.

الفارس الأصيل ابن مدينة حلب الشهباء، رائد الفضاء السوري الأول، والثاني عربيا بعد سلطان بن سلمان آل سعود، كرمه الاتحاد السوفيتي بعدة أوسمة لإنجازاته المهمة، منها وسام بطل الاتحاد السوفيتي في 30 تموز 1987، ووسام لينين.

لكنه لم يتلق التكريم اللائق به من قبل دولته، حتى وسام الجمهورية الذي منحه إياه حافظ الأسد مع الرواد السوفييت الذين رافقوه الرحلة، لم يعلقه له بيده، وهذا شيء مخالف للعرف.

لم يزهد الأسد الأب بتكريم وتقدير محمد فارس وحسب بل تعدى ذلك إلى تهميشه، خصوصا بعد ازدياد شعبيته آنذاك في الشارع السوري، فباتت الجماهير تسمي مواليدها بإسمه وبات ذكره لا يخلو من أي بيت سوري، مما أثار حفيظة من يعتلي عرش الديكتاتورية، فتم استبعاده إعلاميا وتهميشه مهنيا، حتى أن النظام السوري لم يستثمر تجاربه علميا ومعرفيا.

لم ينل هذا الرجل حقوقه حتى على أقل تقدير، فحين يدعى لحضور المؤتمر الدولي السنوي لرواد الفضاء، كان يعاني الأمرين للحصول على الموافقات الأمنية، ابتداء من موافقة المخابرات العامة ومرورا بموافقة قائد القوى الجوية ورئيس الأركان ثم وزير الدفاع، نهاية بتوقيع رئيس الجمهورية. ثم تعود الإجراءات بالتوالي إلى أن تصل للخارجية، ومع ذلك حصرت مشاركاته بحضور مؤتمر واحد من كل خمس مؤتمرات يدعى إليها.

في جميع دول العالم يكرم المتفوق والعالم والمتميز، إلا في دول الأنظمة الديكتاتورية الطائفية، فلا تعلم متى تحل عليك لعنة النظام وتسلطه عليك، حتى لو كنت من المسالمين.

فلا مبرر لهذا الحاكم المتسلط بتهميش هذا الفارس إلا لمرض طائفي يعاني منه، أو نرجسية الديكتاتور الذي يخشى من أي شيء قد يهز عرشه شعبيا، حتى على الصعيد الوجداني أو الفكري.

تناولت إحدى المجلات العلمية الغربية أخبار رواد الفضاء بالعالم عن أحوالهم وأعمالهم الحالية، إلا أنها اكتفت بذكر محمد فارس بجملة "لا نعرف عنه شيئا"!

بعد عودة الفارس من رحلة الفضاء وفي لقائه مع حافظ الأسد عاتبه الأخير لقوله كلمة "يالله" أثناء انطلاق المركبة الفضائية، بحجة أنه أزعج الروس بتلك الكلمة، لكن رائد الفضاء محمد فارس أكد امتنان الروس له بكل المواقف والأحداث التي عاشها مع زملائه، مما زاد استياء الرئيس آنذاك، فقد بات واضحا أن الروس ليسوا ممن استاء من الكلمة، وكان ذلك اللقاء الأخير بين حافظ الأسد واللواء محمد فارس.

الاهمال والتهميش تعدى مستوى التكريم والتقدير، فجلس الفارس في منزله بلا وظيفة أو عمل لمدة تسع سنوات، دفع ضريبة "اللاشيء" أو ربما ضريبة التميز والإخلاص والإيمان.

الإيمان بالله وبالنفس وبالوطن، فالإيمان الوحيد الواجب عليك عند هؤلاء هو الإيمان بالأسد فقط.

الإقصاء والتهميش الذي عانى منه فارسنا النبيل في الداخل السوري ألقى بظلاله حول العالم، حيث تناولت إحدى المجلات العلمية الغربية أخبار رواد الفضاء بالعالم عن أحوالهم وأعمالهم الحالية، إلا أنها اكتفت بذكر محمد فارس بجملة "لا نعرف عنه شيئا"!

رحل عنا رائد الفضاء السوري الأول اللواء محمد فارس وفي قلبه حسرة، حسرة المنفي عن وطن جريح، بعد انضمامه لصفوف الثورة السورية وانشقاقه عن النظام السوري في عام 2012.

أما قلبه كان مع الثورة منذ يومها الأول، فأخبرنا عن موقف لابنه في أيام الثورة الأولى. فعند إقامتهم في دمشق، عاد ابنه إلى المنزل قادما من منطقة كفر سوسة، منهارا يحمل بيده صورة بشار الأسد وهو يمزقها، وذكر لأبيه ما رآه في التظاهرة، كيف أمسك رجال الأمن بأحد المتظاهرين وخلع يده واخرجها من مكانها، لم يحتمل المشهد وانهار باكيا أمام أبيه، وعرف الأب أن الآتي أعظم، وقد كان.

كان ذلك حدثا من أحداث الثورة التي لم تنتهي حتى يومنا هذا، وكانت قصة الطفلة ذات الشهور التسعة التي أخبره عنها أبناء حيه، وعن كيف قتلها أحد جنود النظام بدم بارد وتباهى بقتلها، هي الشعرة التي قصمت ظهر البعير، وكانت سبب قراره بالرحيل إلى تركيا مع عائلته.

فلم يكن قبل ذلك قرار الرحيل سهلا له، فهو من الأشخاص الذين منعهم النظام من مغادرة البلاد، فكان هذا القرار من القرارات الصعبة التي اتخذها.

الرجل النبيل ضاقت به أرض سوريا، لكن اليوم فتحت له السماء أبوابها، لينعم بالأمان والطمأنينة وليستقر بجنات الخلد بإذن الله.

رحل الفارس إلى تركيا هربا مع عائلته واستقر بها، وشارك بالعديد من الفعاليات المناصرة للثورة، وشارك في ندوات ومؤتمرات علمية ومحاضرات في جامعات تركية، كما شارك في افتتاح المعرض العلمي للأطفال في ولاية غازي عنتاب، عام 2019 بحضور رئيس بلدية الولاية، ومات على أرضها ولكنه دفن أمس في أرض سوريا بناء على وصيته واستقبل استقبال الأبطال من معبر حدودها مع تركيا.

لم ينخرط الفارس بأي عمل عسكري، وتمنى لو أن سوريا استفادت من تجربته مع زملائه الطيارين القدامى في بناء قوى جوية حقيقية للتصدي لأعداء سوريا وليس لقتل شعبها.

الرجل النبيل ضاقت به أرض سوريا، لكن اليوم فتحت له السماء أبوابها، لينعم بالأمان والطمأنينة وليستقر بجنات الخلد بإذن الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.