شعار قسم مدونات

علم وفلسفة.. وعقول موسوعية معاصرة

كارل بوبر English: Karl Popper in 1990. الحقوق: ملكية عامة المصدر: Lucinda Douglas-Menzies الرابط: https://commons.wikimedia.org/wiki/File:Karl_Popper2.jpg This work is free and may be used by anyone for any purpose. If you wish to use this content, you do not need to request permission as long as you follow any licensing requirements mentioned on this page. The Wikimedia Foundation has received an e-mail confirming that the copyright holder has approved publication under the terms mentioned on this page. This correspondence has been reviewed by a Volunteer Response Team (VRT) member and stored in our permission archive. The correspondence is available to trusted volunteers as ticket #2013052910008397.
كارل بوبر "Karl Popper" رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة (لوسيدندا دوغلاس مونزيس)

تبدو حقيقة أنّنا كائنات مصيرها الانطفاء في النهاية، مهما طال بنا الزمن أو قصر، سببا كافيا لاهتمامنا الفائق بقراءة كتب السيرة الذاتية والمذكرات أو حتى تدوينها، فالفترة الممتدة بين صرخة الميلاد وزفرة الانطفاء فترة تحوي صراعات وتحولات فكرية ومفاهيمية لا يمكن إدراكها إلا بشق الأنفس، خاصة إن تعلقت بشخصيات تركت بصمة في هذا العالم من طراز ليوناردو دافنشي، كارل ساغان، فريدريك سانغر أو لايبنتز. وليس من المنطقي أو المعقول تركها تذبل وتذوي في قعر النسيان مع غياب صاحبها عن مسرح الوجود البشري. وتدوين سيرة ذاتية بهذا السياق هي عملية منعشة للعقل ونوعٌمن محاولة تمرير خبرة جاهزة إلى الآخرين حتى توفّر عليهم بعضا من الأثمان الفكرية التي يمكن تجاوزها. وهي أيضا نوع مباح من إشباع الفضول البشري للتلصص بطريقة مشروعة على التفاصيل الصغيرة لحياة بعض البشر المميزين ممّن يستحقون أن تروى حكاياتهم بالتفاصيل التي يسمحون بإتاحتها للآخرين.

إن أردت الوقوف عند اسم من موسوعيي العصر المعاصر اليوم، فسأبدأ دون شك بالعالم الذي صنعته الفلسفة، كارل بوبر (Karl Popper) رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة، عرف كشخصية موسوعية لاتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره

لكن قد يتساءل الواحد منا، هل مازلنا نشهد عقولا موسوعية حذقة في عالمنا المعاصر كتلك التي نقرأ عن تواريخها في الأدبيات المنشورة؟ إجابة عن سؤال كهذا تبدو محاكمة يشوبها الكثير من القصور الفكري إن نحن قسنا شخصيات اليوم بنظائر سابقة لها في عصر النهضة والتنوير؛ فعصرنا اليوم يختلف عن عصر النهضة، القوانين الحاكمة مختلفة، وكذا طبيعة النظم السياسية والاقتصادية والفكرية والفلسفية، ما يجعل مخرجاته تختلف عن سابقه. لربما الخيط الجامع الوحيد بين السابقين واللاحقين هو الاشتغال المعرفي متعدد الجبهات، والشغف الفكري والفلسفي غير المحدود. ولعلها المساحة التي ماتزال بِكرا لم يدنسها مبدأ السوق ولا الأفكار التجارية البراقة التي تجعل من الفكرة مسخا من علم يحتكره أصحاب المال لا أصحاب الحاجة، فقد تبلغ بجاهك ومالك مناصب ما كنت ببالغها بهشاشة علمك، لكن لن يملكك أحد عقلا موسوعيا وفكرا فذا ما لم تشتغل أنت على نفسك.

وإن أردت الوقوف عند اسم من موسوعيي العصر المعاصر اليوم، فسأبدأ دون شك بالعالم الذي صنعته الفلسفة، كارل بوبر (Karl Popper) رمز لثراء الفكر ومثال حي لخصوبة الفلسفة، عرف كشخصية موسوعية لاتساع مجال اهتمامه ونطاق تأثيره، فقد درس الرياضيات والفيزياء والتاريخ والموسيقى، وبرز في فلسفة العلوم، فكان من أهم فلاسفة العلم في القرن العشرين، خاصة بوضعه مبدأ قابلية الدحض (Refutability)، وقابلية التكذيب (Falsifiability)، وهما المبدآن اللذان يميزان كل معرفة علمية حقيقية عن معرفة زائفة. وبشكل غير مسبوق في تاريخ الممارسة العلمية، شهد العالم كبار العلماء وأفذاذهم يتدافعون إلى مائدته ويتسابقون على التهام أعماله الإبستمولوجية والعلمية والاجتماعية واستلهامها، ويفيدون من مناهجه واستبصاراته في نشاطهم الفعلي.

أعترف أن قراءة سيرة بوبر الذاتية "بحث لم ينته: سيرة ذاتية فكرية"، بترجمتها الصادرة منذ سنتين عن دار المدى، عمل شاق عسير على البلوغ بمثل ما هي فعل باذخ المتعة العقلية، لأنها نتاج عقل فلسفي رصين، يندهشُ قارئها من شخصية بوبر الفكرية المتعشقة الاهتمامات، ولعل بوبر ارتأى أن يوزعها على موضوعات قصيرة في أربعين جزءا، بعناوين محددة غير مترابطة بحيث يمكنك أن تختار ما تشاء من أجزاء من غير ترتيب ومن غير توجس من ضياع تسلسله الفكري حتى لا يثقل كاهل القارئ غير الصبور وليخفف عنه التعقيد المفاهيمي الذي قد يصيبه بالسأم.

يشير بوبر في فصل "التأثيرات المبكرة" إلى البيئة الثقافية التي نشأ فيها والتي ساهمت في تشكل شخصيته: «كان الجو الذي نشأت فيه مليئا بالكتب. فقد كان والدي الدكتور سيمون سيغموند كارل بوبر، مثل شقيقيه، دكتورا في القانون في جامعة فيينا ولديه مكتبة كبيرة، وثمة كتب في كل مكان باستثناء غرفة الطعام، حيث كان هناك بيانو حفلات ضخم… كان هناك العديد من أعمال باخ وهايدن وبيتهوفن وشوبرت وبرامز… اهتم والدي اهتماما كبيرا بالفلسفة؛ فما زلت أمتلك من مكتبته أعمال أفلاطون وبيكون وديكارت وسبينوزا ولوك وكانت وشوبنهاور… كانت الكتب جزءاً من حياتي قبل وقت طويل من قدرتي على قراءتها..».

يعتبر نوربرت فاينر من بين أبرز العقول الفذة التي أثرت في تطور الفكر العلمي والتكنولوجي في القرن العشرين. اشتهر بأعماله في مجال نظرية الأنظمة والرياضيات التطبيقية

تعطي سيرته الذاتية أيضا فكرة عن فلسفته، تلك الفلسفة متعددة الأركان التي يتناغم فيها الحس فيأخذ نصيبه والعقل فيوضع في نصابه والمنطق فيكون مرشدا للحس والعقل. فلسفة قائمة على النسبة والتناسب حيث تسلم المقدمة الأولى للحس وتعمل العقل للتوصل للنتيجة.  تتبع الأجزاء المتبقية من سيرته موضوعات فلسفية متعددة، مثل نظرية المعرفة، منطق الاكتشاف العلمي، الواقعية ونظرية الكم، والمجتمع المفتوح وعقم المذهب التاريخي. ويتناول الكتاب أيضا نقاشات بوبر مع علماء آخرين.

الشخصية الموسوعية الأخرى التي لم أستطع منع نفسي من الحديث عنها هي نوربرت فاينر، بروفسور الرياضيات الذي أمضى الأغلبية العظمى من حياته في معهد ماساتشوستس للتقنية MIT، معهد أقرب لنموذج مركز لصناعة الأفكار التقنية والمعلوماتية التي هي في النهاية نتاج أفضل العقول الخلاقة في عالمنا المعاصر. يعتبر فاينر من بين أبرز العقول الفذة التي أثرت في تطور الفكر العلمي والتكنولوجي في القرن العشرين. اشتهر بأعماله في مجال نظرية الأنظمة والرياضيات التطبيقية، وكان له دور كبير في تأسيس السيبرنيتيكا أو العلم القائم على الأنظمة والتحكم. كان لأعمال وينر تأثير كبير على تطوير علم التحكم الآلي والمجالات ذات الصلة. تم تطبيق أفكاره في مجموعة متنوعة من السياقات، بما في ذلك تصميم أنظمة الذكاء الاصطناعي، ودراسة الإدراك البشري، وتطوير أنظمة التحكم للآلات المعقدة.

لم يكتف فاينر بمجال الرياضيات التطبيقية فقط، بل تناول العديد من القضايا الفلسفية المعقدة المتعلقة بالتكنولوجيا والمجتمع، مثل الأخلاقيات المتعلقة بتطوير التكنولوجيا وتأثيرها على البشرية. وكذا تأثيرها على العمل والاقتصاد والحياة اليومية، وأثرها على الهوية الإنسانية والعلاقات الاجتماعية.

تروي الكتب التي تناولت السيرة الذاتية لفاينر أنه كان أستاذا جامعيا غير تقليدي، وكان معروفا أنه يستخدم مجموعة متنوعة من التقنيات لإشراك طلابه، تأثر نهجه في التعليم بخلفيته في الرياضيات والهندسة

في كتابه "السيبرنيتيكا: أو علم التحكم والاتصال في الحيوان والآلة"، الذي قد يبدو من الوهلة الأولى كتابًا غارقًا في التقنية والهندسة، وهو ما يشيرُ إليه عنوانه، إلاّ أنه غير ذلك؛ فقد استعرض فاينر فيه الأفكار التي تقف وراء تطور التكنولوجيا وكيف يمكن للكائنات الحية والآلات أن تتفاعل بشكل متناغم ومتكامل. وقد ناقش أيضًا التحديات والتهديدات التي قد تواجه المجتمع نتيجة لتقدم التكنولوجيا. يناقش الجزء الثالث من الكتاب الآثار المترتبة على علم التحكم الآلي لمجالات مثل علم الاجتماع وعلم النفس. وسرعان ما صار هذا الكتاب أحد الكلاسيكيات الرفيعة في ميدان العلم والتقنية، ولعلّ عنوان الفصل الأول من الكتاب وهو "الزمن النيوتوني والزمن البرغسوني" يشي بالثراء الفلسفي للمادة التي يتعامل معها فاينر.

تروي الكتب التي تناولت السيرة الذاتية لفاينر (كتاب Norbert Wiener: A Mathematician among Engineers على وجه الخصوص) أنه كان أستاذا جامعيا غير تقليدي، وكان معروفا أنه يستخدم مجموعة متنوعة من التقنيات لإشراك طلابه، تأثر نهجه في التعليم بخلفيته في الرياضيات والهندسة. اعتقد أن هذه المجالات توفر منظورا فريدا للعالم. لم تكن حياة نوربرت فاينر سهلة، بل كانت مليئة بالتحديات والمعارك الفكرية الناجمة عن عقله الموسوعي والتي شكلت جزءًا أساسيًا من تطوره الفكري والأكاديمي، بالإضافة إلى تربيته في بيئة تميزت بالصرامة والتشدد الأكاديمي، هذه التربية الصارمة النابعة من والده قد تسببت في إثارة العديد من الإشكاليات والتساؤلات الفلسفية التي شكلت جزءًا كبيرًا من تفكيره العلمي والفلسفي.

تجارب هذه العقول الموسوعية الفذّة تخبرك أننا بالمغامرة بتجربة العيش والتعلم في مناطق معرفية متشابكة، نفتح أمام أنفسنا أبوابا لا تتوقف عن المفاجآت والاكتشافات والانبهار. فالانزواء في زاوية فكرية بعيدة والاكتفاء بعلم دون آخر يقيد رؤيتنا ويقلل من إمكانياتنا الفكرية ويجعلنا نفوت من الخير الكثير. الرحلة نحو فهم أعمق وأوسع تتطلب شغفًا وإرادة قوية وتصميما صلبا لا يثنيه شيء، فهي ليست نزهة ناعمة ولا مطلبا سهلا يمكن إدراكه بمجرد التمني، لكنها تمكننا من تخطي الحواجز المتخيلة التي تحاصر عقولنا، واكتشاف أفاق جديدة في أنفسنا والعالم من حولنا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.