شعار قسم مدونات

لا تكن مجرد إنسان!

blogs التسامح ونبذ الطائفية
الإنسانية هي مجموعة من القيم والمعاير التي تفيد حياة الإنسان بغض النظر عن الخير والشر (رويترز)

الكثير منا يتبادر إلى ذهنه عندما يسمع كلمة "إنسانية" مصطلحات عديدة، كالنبل، والرحمة، والتسامح، والترابط، والعدل، وغيرها، لكن الواقع الذي نعيشه له رأي مختلف في هذا الأمر.

على الرغم من أن الإنسانة بحد ذاتها ككلمة لا تدل على خبث أو شيطنة أو نبل أو نزاهة، إلا أنها تشير إلى أنك إنسان بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني الخير والشر. هي وصف لعدد كبير من البشر الذين أطلق عليهم مصطلح إنسان ممن ارتكبوا فضائع بحق البشرية، شريحة منا بني البشر طغى شرها على خيرها، فذابت إنسانيتهم وطغت نزعتهم الشيطانية عليهم، فعاثوا في الأرض فسادا من جرائم قتل وإبادة قديما وحديثا.

ها هو الإنسان يقتل أخاه الإنسان ويسلب أرضه ويهتك عرضه وينهبه، أليس الإنسان من استباح الكذب ليبرر لنفسه كل ما سبق؟ فعندما يقول لك شخص ألست إنسان؟ هل أنت مجرد من الإنسانية؟ أتساءل حقا ما الذي يعنيه وأي نوع من الإنسانة يقصد؟

فإذا نظرنا إلى قول الملائكة: "أتجعل فيها من يفسد فيها"، يعطيك مؤشرا من مخاوف الملائكة مما قد يفعله هذا الإنسان، بطبيعة الحال الملائكة لا تعلم الغيب إنما قاست على فعله الجن من إفساد وقتل في الأرض. فقد استعمر الجن الأرض قبل الإنسان وعاثوا فيها فساد،. وما إن استعمر الإنسان الأرض قام أحد ابني آدم بقتل أخيه، ليسن سنة القتل في الأرض بين البشر.

أضف إلى ذلك الحملات الصليبية وإبادتها للبشر فقط لأنهم على غير دينهم، ناهيك عن الحروب العالمية الأولى والثانية، 70 مليون هنا و20 مليون هناك والحبل على الجرار، وبطبيعة الحال لا يمكن أن نغفل عن إبادة تدور رحاها الآن في فلسطين وقطاع غزة تحديدا.

فها هو الإنسان يقتل أخاه الإنسان ويسلب أرضه ويهتك عرضه وينهبه، أليس الإنسان من استباح الكذب ليبرر لنفسه كل ما سبق؟ فعندما يقول لك شخص ألست إنسان؟ هل أنت مجرد من الإنسانية؟ أتساءل حقا ما الذي يعنيه وأي نوع من الإنسانة يقصد؟

هل إنسانية الغرب التي أبادت أكثر من 100 مليون من المواطنين الأصلين في أميركا وكندا ليؤسس الرجل الأبيض النقي العرق موطنا له هناك؟ أم إنسانية الدول الاستعمارية كبريطانيا على سبيل المثال لا الحصر التي كانت إمبراطورية لا تغيب عنها الشمس من التنكيل والقتل واستباحة البلاد والعباد؟ أو يقصدون إنسانية احتلال دعي أنه الأكثر أخلاقا في العالم وجنوده يقتلون ويمزقون الأطفال والنساء والأبرياء إلى أشلاء في فلسطين؟! لست أدري عن أي إنسانية يتحدثون.

يقول الدكتور مصطفى محمود رحمه الله، إن الإنسانية هي مجموعة من القيم والمعاير التي تفيد حياة الإنسان بغض النظر عن الخير والشر. على سبيل المثال: ماذا لو اكتشف البشر كائنات فضائية لها حياتها ولها طبيعتها واكتشف العلم الإنساني أن أكل لحوم هذه الكائنات مفيد لأنه يشفى من الأمراض ويطيل العمر مثلا، سيكون حينها غزو هذه الكواكب وقتل هذه الكائنات المسالمة هو منتهى الإنسانية. أليست هذه إنسانية الغرب في الأرض دونما الحاجة للذهاب إلى الفضاء؟

الكلمة لا تعني التكريم، ومن يعرف الإنسان أكثر من خالقه؟ ألم يقل الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد!

لكننا إذا ما نظرنا في القرآن الكريم وتتبعنا كلمة إنسان ستتفاجأ أن كلمة الإنسان لم ترد إلا في موضع واحد في القرآن مقترنة بذكر طيب.

قال تعالي: "قتل الإنسان ما أكفره"، "إن الإنسان لربه لكنود"، "وكان الإنسان عجولا"، "وكان الإنسان أكثر شيء جدلا"، " كلا إن الإنسان ليطغى"، حتى عندما قال له تشريفا وتكريما "لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم" أردف بعدها يقول "ثم رددناه أسفل سافلين"، وأسفل سافلين هنا فيها أكثر من رأي من المفسرين، فمنهم من قال إن المقصود بها رده إلى أرذل العمر كبر السن، ومنهم من قال لأنها حالة خاصة بالكافرين وتعني النار. بل إن هناك سورة كاملة في القرآن اسمها الإنسان تذكر الإنسان أنه خلق من عدم لم يكن له أثر، ويذكره الله بطبيعة خلقه، وإلى ماذا قد توصله أفعاله في نهاية المطاف، فإما نعيم وإما سعير.

خلاصة الأمر، أن الكلمة لا تعني التكريم، ومن يعرف الإنسان أكثر من خالقه؟ ألم يقل الله تعالى: ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد! هل معنى ذلك أن الله يحتقر خلقه؟ هل يبغض الله الإنسان عندما لم يذكره إلا باللوم والتقريع؟ بكل تأكيد لا، فهو الذي اختاره ليكون خليته في الأرض ويعمرها.

يجب أن تدرك أن الله سبحانه وتعالى خلقنا جميعا كثوب أبيض ناصع لا شائبة فيه، نقي من الذنوب والمعاصي، فالإنسان لا يولد طائعا أو عاصيا لا ظالما ولا صالحا. يولد إنسان فقط هذه هي الصفة المجردة التي تحمل في طياتها الخير والشر، والصلاح والفجور، والرحمة والقسوة، وكل هذه المصطلحات التي بمعنها المجرد قد تشكل وصفا للإنسان.

فإذا بقي على إنسانيته المجردة التي فطر عليها وجاهدة هذه النفس ونهاها عن الهوى سيكون قد صدق بالحسنى، ونجى من سعير ولظى، وعندها لن نحتاج لكل هذه القوانين المعطلة لحقوق الإنسان التي صدع الغرب رؤوسنا بها، ليكون أول من انتهكها بل ومزقها شر تمزيق في مسرح غزة الذي تقتل فيه الإنسانية كل يوم ألف مرة.

هناك في هذا القطاع ترى جانبي الإنسانية من عتمة وظلام، وإشراقة ونور. احتلال ومن وراءه قوات الظلام التي أخرجت أسوء ما في الإنسان من فقدان لإنسانيته، وشعب صابر محتسب يعتصر ألما بين موت وشتات وجوع وعطش، وهو يسطر لنا أروع الأمثلة لنموذج الإنسانة من التآخي والإيثار، والصبر والثبات.

المقصود هنا هل لا أمل في الإنسان ولا يمكن تغييره؟ بكل تأكيد يمكن، فالإنسان بالفطرة مجبول على الخير. لكن للوصول إلى هذه التغيير عليك الخروج من دائرة، كونه إنسان فقط، والانتقال إلى مقام أعلى من مقام الإنسانية ألا وهو مقام الإيمان، وإن كنت تريد السمو أكثر فهناك مقام أعلى من مقام الإيمان، ألا وهو الإحسان، وهناك أناس من خلق الله قد بلغوا هاتين المرتبتين.

حياة بدون إيمان هي عتمة وظلمة وضنك من العيش، ظلمة من العدم والتيه، فالإنسان بدون إيمان هو مخلوق تائه ضائع منسي في الدنيا، ومنسي في الآخرة

الناس في القرآن درجات ومنازل، عبر الله عن كل طائفة منهم بمسمى. هناك الإنسان الكافر، وهناك المؤمن، وهناك المنافق. والإنسان هو التعريف الأول، وهو الصفة التي ستظل مصاحبة لك ما حييت، فإن كنت كافرا أو مؤمنا أو حتى ملحدا فأنت أولا وأخيرا إنسان، لكنك إذا أردت العلو والسمو والرفعة، فلا سبيل لذلك إلا بالإيمان.

عندما تحدث الحق سبحانه وتعالى عن المؤمنين قال: "قد أفلح المؤمنون"، "يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات"، لكن في المقابل وفي مقارنة واضحة بين الإنسان وبين المؤمن يقول الحق: "ن الإنسان لفي خسر، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر".

وعليه إن كنت تريد مرتبة المؤمنين وليس مجرد أن تكون إنسان، فعليك أن تمتثل لتوجيه الله لعباده المؤمنين بشكل خاص للسمو بهم إلى هذه المرتبة فوق كل جهالة ويعينهم على مغالبة طبيعتهم البشرية وأنفسهم الأمارة بالسوء حيث قال: "يأيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين"، "يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب أليم"، "يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون".

الفارق بين موطن ذكر كلمة إنسان في القرآن وموطن ذكر كلمة المؤمن يوضح شكل الحياة بغير إيمان. حياة بدون إيمان هي عتمة وظلمة وضنك من العيش، ظلمة من العدم والتيه، فالإنسان بدون إيمان هو مخلوق تائه ضائع منسي في الدنيا، ومنسي في الآخرة، أن تكون إنسانا من دون إيمان، أن تكون كهؤلاء الذين يقتلون أهل فلسطين وغزة على وجه الخصوص، وأن ترى الإيمان سائرا على قدمين على هيئة بشر، فما عليك إلا النظر إلا أهل قطاع غزة فهناك ترى أعاجيب الصبر والإيمان.

فيا ابن آدم، يا أيها الإنسان، أدخل مدرسة الله وتأدب بأدبه، وكن على خلق يليق بك. ذلك هو السبيل الوحيد لكي تسمو وألا تكون مجرد إنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.