شارل مونتسكيو.. فيلسوف منعت الكنيسة كتبه ومهدت أفكاره للثورة الفرنسية

Charles de Secondat, Baron de Montesquieu (1689-1755), circa 1790. Private Collection. Artist Alix, Pierre-Michel (1762-1817). (Photo by by Fine Art Images/Heritage Images via Getty Images)
رسمة لشارل مونتسكيو حوالي عام 1790 وهي ضمن مجموعة خاصة للفنان أليكس بيير ميشيل (غيتي)

شارل مونتسكيو كاتب وفيلسوف وقاض فرنسي ولد عام 1689، تربى تربية النبلاء ونشأ نشأتهم وتولى مُتسوِّل كفالتَه الروحية. درس التاريخ والقانون والفلسفة وترك مجموعة من الأعمال التي تميز بها. ويعتبر من كبار فلاسفة الأنوار الذين ساهمت أفكارهم في التمهيد للثورة الفرنسية، ويعد أول منظر لأشكال الحكومات، كما تنسب إليه نظرية الفصل بين السلطات.

اشتهر بعمله الكبير "روح القوانين" (1748) الذي كان له تأثير كبير في تطور النظرية السياسية والعلوم السياسية الحديثة. أصيب بضعف البصر في آخر أيامه، قبل أن يموت متأثرا بمرضه سنة 1755 في باريس، ولم يسر في جنازته من الكتاب والفلاسفة سوى الفيلسوف دنيس ديدرو.

وصفه عبد الله العروي بكونه "واسع الاطلاع، متحرر الفكر، متنوع التجربة، يجمع بين ذوق الأديب وعمق الباحث المتحرر". وأضاف أننا "نجد هذه الصفات واضحة في كل مؤلفاته، القصيرة والطويلة، الهزلية والجدية، الأدبية والفلسفية". ولعل هذا ما جعل منه المنبع الذي نهل منه فقهاء القانون ومؤسسو علم الاجتماع والتاريخ المقارن ودعاة الليبرالية.

المولد والنشأة

ولد شارل لويس دي سيكوندا الملقب بـ"بارون لابريد ومونتسكيو"، والمشهور اختصارا باسم شارل مونتسكيو، بالقرب من مدينة بوردو بفرنسا في 18 يناير/كانون الثاني 1689م.

كانت ولادته في القلعة التاريخية "شاتو دو لابريد"، الواقعة في جوين بالقرب من بوردو، وقد بنيت تلك القلعة سنة 1404م، ودخلت في ملكية عائلته منذ عام 1686م.

ينحدر مونتسكيو من طبقة نبلاء إقليمية قديمة توارثت عضوية البرلمان، وكانت ترفض الاستقرار في بلاط الملك لويس 14. واختار والداه متسولا ليكفله روحيا (عرابا)، حتى يتذكر أن الفقراء هم إخوته.

ومثل معظم أبناء النبلاء، عُهد به منذ ولادته إلى مرضعة تعيش في منطقة "مولان دو بورغ"؛ وحتى سن الثالثة والنصف كان يعيش "مزارعا صغيرا" ويتحدث اللاتينية الكلاسيكية.

قضى طفولته الأولى في قلعة "شاتو دو لابريد"، وأصبح وهو شاب طالبا في ثانوية "خطباء جويلي"، التي تسمى أيضا "الأكاديمية الملكية" في الفترة 1700-1705، وهي مدرسة أحدثت لتنشئة أبناء النبلاء الفرنسيين، ثم التحق بمدينة بوردو لاستكمال دراسته سنة 1708م.

عندما توفي والده عام 1713م عاد ليستقر في موطنه الأصلي، وقد ورث من تركته لقب "بارون لابريد" ثم لقب "بارون مونتسكيو" عام 1716، بعد وفاة عمه، إضافة إلى ثروة كبيرة.

اعتنى كثيرا بإدارة ممتلكاته -وخاصة كروم العنب- التي أصبحت عملا مربحا وشكلت دخله الرئيسي. وكانت القلعة التي ولد ونشأ فيها أيضا مكانا ملائما للعمل الفكري، وتحوي مكتبته فيها أكثر من 3 آلاف مجلد، نصفها باللغة اللاتينية.

MOSCOW, RUSSIA - MARCH 10, 2013: A stamp printed in Romania shows Charles-Louis de Secondat, ...
ختم روماني يظهر شارل مونتسكيو (شترستوك)

الدراسة والتكوين

تلقى تعليما كلاسيكيا قبل أن يبدأ حياته المهنية في المحاماة في عمر ناهز 25 عاما تقريبا. وفي الفترة 1700-1705م درس في الأكاديمية الملكية بمدينة جولي بالقرب من باريس. وهي ثانوية أُحدثت لتنشئة أبناء النبلاء الفرنسيين.

في الفترة 1706-1708 عاد إلى بوردو لدراسة القانون في كلية الحقوق، وحصل على درجة البكالوريوس. ومن عام 1709م إلى 1713م سافر إلى باريس لإكمال دراساته في القانون. وعام 1714م أنهى مساره الدراسي وأصبح مستشارا في برلمان بوردو.

التجربة السياسية

يعد مونتسكيو من أهم الفلاسفة الذين ساهمت أفكارهم في التمهيد للثورة الفرنسية، فقد عاش نهاية حكم لويس 14، التي تميزت بالانغلاق والاضطهاد الديني. كما أنه كان يعد المفكر السياسي الأكثر هيبة ونفوذا في دوائر المعارضة البرجوازية في القرن الـ18 في فرنسا.

وشكلت كتاباته في مجملها دعوة إلى قيم الحرية والتعددية والتسامح والتأسيس للديموقراطية والفصل بين السلطات، وهيأت أذهان المواطنين لإعادة النظر في حياتهم العامة وفي علاقتهم بالدولة.

في سن الـ27 كان رئيسا في برلمان بوردو، وهو المنصب الذي شغله حتى عام 1726م، وألقى فيه العديد من الخطب. وعام 1727م تقدم للأكاديمية، لخلافة لويس دو ساسي، معلنا أنه إذا لم يعيّن فإنه سيغادر فرنسا.

كان انتخابه مؤكدا، إلا أن خصومه عارضوه بكتابه "الرسائل الفارسية"؛ فتصدى لذلك الهجوم من خلال إنتاج طبعة منقحة قدمها بسرعة إلى رئيس الوزراء، الكاردينال دو فلوري، وألقى باللوم على المحررين في الأخطاء التي اتهم بارتكابها.

تظاهر فلوري بعدم الاهتمام بالانتخابات، وتم انتخاب مونتسكيو في الخامس من يناير/كانون الثاني 1728 ضد منافسه ماتيو ماريه. واعتبر هذا أول انتصار عظيم لـ"حزب الفلسفة". لكن البرود الذي أظهره له زملاؤه الجدد، حتى أولئك الذين كانوا أصدقاء له، دفعه إلى السفر عبر أوروبا ونادرا ما كان يحضر الأكاديمية.

رغم معارضة الكنيسة لكتابه "الرسائل الفارسية"، انتخب للأكاديمية عام 1725، لكن انتخابه ألغي لأنه كان يقيم في العاصمة؛ ثم جاء إلى باريس، وكان يتردد على نادي إنتريسول، وصالونات برانكاس وديجيلون ودو ديفان ودو تينسين وجيوفرين.

التجربة العلمية

لا يستمد مونتسكيو معرفته من الكتب فقط بل من الواقع. وهكذا تنقل بين عامي 1728م و1731م في رحلة دراسية عبر أوروبا بين فيينا والمجر وإيطاليا وألمانيا وهولندا. وأنهى رحلته في إنجلترا، حيث أقام عاما ونصف عام، وتأثر بشدة بالأسلوب الإنجليزي في الحكم.

في الفلسفة والتاريخ

يتداخل في فكر مونتسكيو القانون والدين والسياسة، ويتفاعل في منهجه التفسير والتجريب والتأويل، ويدرس الماهيات والوقائع والعلاقات، ولهذا يتسم نسقه الفلسفي بطابع تركيبي.

وتركزت إنجازاته الفلسفية في مجال الفلسفة السياسية، فقد عمل من موقع الفيلسوف على الانخراط في قضايا عصره، متوسلا بعدة آليات معرفية ومنهجية حققت له بناء خطاب فلسفي يعبر عن أنطولوجيا حاضره.

يعتبر أحد أهم فلاسفة الأنوار، وقد نشر سنة 1721م كتابه "الرسائل الفارسية"، ونشر في سنة 1734م "نظرات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم"، وهو كتاب يعتبره كثيرون "عملا تاريخيا عظيما". كما نشر في سنة 1748م "روح القوانين" الذي يشكل خلاصة أبحاث استغرقت سنوات عدة، وحصيلة تأملاته السياسية والتاريخية.

المنهج

يذهب لويس ألتوسير إلى أن ما يميز مونتسكيو، مقارنة بفلاسفة الأنوار، انطلاقه من الوقائع لاستخلاص القوانين وليس من الماهيات. فلم يلجأ مونتسكيو، خلافا لزملائه، إلى العقل من حيث إنه المبدأ الأساسي للسياسة والمجتمع، بل تناول موضوعاته من الناحية السوسيولوجية، وجعل الصور السياسية لبلد ما ومؤسساته تعتمد على "روح" نظام الحكم وظروفه الفيزيائية والتاريخية.

هذا الأسلوب السوسيولوجي، الذي بدأ في التشكل، لم يكن ملائما للفلاسفة الذين عاصروه، من أمثال فولتير وديدرو وكوندورسيه الذين اعتقدوا أن وظيفة العقل هي أن يقدم مبادئ كلية مستقلة عن التاريخ والظروف والروح الوطنية.

وكان مونتسكيو، خلافا لأغلب مفكري عصره، كما يرى تودوروف، يحذر من استعمال العقل بإفراط. ويكاد يكون الوحيد حينها الذي نظر في المشكلات السياسية بحد ذاتها من دون أن يحيل إلى تصور ناجز للفكر وللطبيعة، أو أن يؤسس فلسفته السياسية على الميتافيزيقا.

photo prise le 15 septembre 2005 au Palais Bourbon à Paris, de "De la Politique", un opuscule de Charles de Montesquieu qui aurait été écrit vers 1722 et qui est présenté dans le cadre de l'exposition "Les Trésors de l'Assemblée nationale" qui se tient du 17 septembre au 29 octobre 2005 dans la Galerie des Fêtes. Cette exposition permet au public de découvrir une centaine de pièces anciennes d'exception. AFP PHOTO JACK GUEZ Picture taken 15 September 2005 at the Palais Bourbon in Paris shows 'De la Politique' (On Politics) an opuscule by Charles de Montesquieu supposedly written around 1722 that will be displayed in Paris as part of the "Les Tresors de l'Assemblee nationale" (The Tresors of the National Assembly) exhibition running from 17 September until 29 October 2005. AFP PHOTO JACK GUEZ (Photo by JACK GUEZ / AFP
صفحة من كتاب "شيء من السياسة" لمونتسكيو كتبه عام 1722 موجود في قصر بوربون بباريس (الفرنسية)

التحليل التجريبي

لا ينفصل المنهج الذي اعتمده مونتسكيو عن الموضوع الذي شغل فكره. فهمُّه لم يكن التفكير في ماهية المجتمع أو بناء مجتمع مثالي، كما هو الأمر بالنسبة إلى أغلب فلاسفة العقد الاجتماعي، بقدر ما كان التفكير في المجتمعات المجسدة في التاريخ الإنساني، إضافة إلى ذلك، انعكست طبيعة الموضوع الذي عالجه في مؤلفاته كلها على اختياره المنهجي، بحيث استلهم روح الفيزياء الجديدة والانطلاق من الوقائع.

اختلف مونتسكيو عن باقي كتاب القانون، إذ لم يكتف بمجرد القيام بوصف شكل المؤسسات السياسية، ولكنه حلل تجريبيا الظروف الجغرافية والاجتماعية والتاريخية التي تحيط بهذه المؤسسات.

ويرى أن المناخ والتربة يؤثران في تفكير الإنسان، وأن البلاد الحارة نظمها متشابهة، والبلاد الباردة نظمها متشابهة، وأن القانون الوضعي لا بد أن يتلاءم ملاءمة تامة مع المحيط الذي يعيش فيه المجتمع.

وكان مونتسكيو من المؤمنين بالنسبية مثل أرسطو، فكان يعتقد أن النظام السياسي الأصلح للحكم يختلف من بلد إلى بلد، ومن زمن إلى زمن، بحسب طبيعة البلد الجغرافية وتاريخه ومساحته وظروفه، ولكن النظام السياسي هو الذي يحقق الحرية للمواطنين.

ومونتسكيو لا يهتم بطريقة وضع القوانين وسنها بقدر ما يهتم بمضمونها؛ فالحكم الديمقراطي وإن أقرته سلطة الشعب قد لا يقر حريته، والمهم بالنسبة له هو تحقيق هذه الحرية.

والتعدد في اهتماماته لا يلغي وحدة فكره واتصال تأملاته، إذ إنه اشتغل في جميع أعماله بالبحث في القوانين المتحكمة في المجتمعات والمنظمة لسير ظواهر التاريخ والطبيعة، ورصد تأثيراتها في حياة الناس.

في أول أعماله، "الرسائل الفارسية"، عالج علاقة الدين بالقانون، مؤسسا لنسبية المعتقدات وجغرافية الأحكام والشرائع، وداعيا إلى التسامح الديني، ومنتجا خطابا تعدديا يتفهم المخالف دينيا وحضاريا. وعالج في ثاني أعماله "تأملات في أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم"، القانون في علاقته بحركة التاريخ، كاشفا عن القوانين المتحكمة في تقدم الدول والحضارات وتأخرها.

وفي كتابه "العمدة" والأشهر بين أعماله كلها "روح القوانين"، عالج القانون في علاقته بعوامل مختلفة تحدد القوانين العامة، كالمناخ والأرض والسكان والاقتصاد والأخلاق والدين والسلطة.

وفي هذه العوامل يتداخل ما هو مادي مع ما هو مثالي، وما هو صوري مع ما هو عياني. ويفصح ذلك عن الطابع الجدلي لفكر مونتسكيو الذي سعى إلى تأسيس منهج وضعي لتفسير التاريخ الإنساني والديني تفسيرا شاملا، وتسويغ التفكير أيضا في مستقبل المؤسسات وتحولها في التاريخ الواقعي.

Charles Montesquieu
من أبرز نظريات مونتسكيو في العلوم السياسية الفصل بين السلطات (غيتي)

في العلوم السياسية

وضع مونتسكيو طريقة جديدة لدراسة الأفعال المتعلقة بحكومة المجتمعات، وكانت السياسة في نظر نيكولو مكيافيللي تقنية تنظمها الفرصة وحدها، أما في نظر جاك بينين بوسويه فهي "روحانية" تستمد مصادرها من الكتاب المقدس.

ومع مونتسكيو أصبحت علما يعتمد على المعرفة الدقيقة بالعلاقات المرغوبة بين الناس، إذ يرى أن "القوانين تكون جيدة عندما لا تحقق الإنصاف والعدالة في حد ذاتها، بل تحقق جزءا من الإنصاف والعدالة يتكيف مع المناخ والتضاريس والعادات".

ومن أبرز نظرياته السياسية:

  • الفصل بين السلطات

ارتبط مبدأ الفصل بين السلطات باسم مونتسكيو، حيث كان له الفضل في إبراز هذا المبدأ الذي هدف إلى تنظيم العلاقة بين السلطات العامة في الدولة. وعرض مونتسكيو نظريته في كتابه الشهير"روح القوانين".

ومبدأ فصل السلطات مبدأ سياسي هدفه منع الاستبداد، والحفاظ على الحقوق والحريات. وترجع جذوره إلى عهد الإغريق، فقد ظهر هذا المصطلح لأول مرة عند أفلاطون، ثم عند أرسطو، ثم طوره جون لوك، ولكن مونتسكيو هو الذي تناوله بالبحث والدراسة بعدما انتقل إلى إنجلترا، واستفاد من نظامها السياسي وتطوره، وانتقل المبدأ إلى الميدان التطبيقي على إثر الثورتين الأميركية والفرنسية.

  • الحكومات الثلاث

الجمهورية، والملكية، والاستبداد، هذه هي الأنواع الثلاثة للحكومة التي حددها مونتسكيو. وعرفها كالتالي:

  • في الجمهورية، يخاطب رئيس الحكومة رعاياه مباشرة، وهم متساوون في الحرية "يتجسد الشعب بجزء منه يتمتع بسلطة سيادية"؛ ويفوض الشعب سلطته إلى الحكومة التي تمثله.
  • وفي الملكية، يحكم الملك، من خلال هيئات الامتياز (أساسا رجال الدين، والنبلاء، والبرلمانات)، والرعايا متساوون في طاعته، "شخص واحد يحكم، لكن بقوانين ثابتة وراسخة. تتلقى الهيئات الوسيطة تفويض السلطة من صاحب السيادة (…) ويخضع الشعب لسلطة الملك".
  • في الحكم الاستبدادي، يكون الحكم المطلق للطاغية على عبيد متساوين في العبودية "شخص واحد، بدون قوانين ولا قواعد، يقود الجميع بإرادته ونزواته (…) ويكفي تلقي الأوامر". والشعب يخضع لاستبداد سيد مطلق.
  • مبدأ ارتكاز الحكومات الثلاث

وكل نوع من أنواع الحكم السابقة يقوم على مبدأ "النابض" الذي يضبط عملها ويضمن صونها.

تقوم الحكومة الجمهورية على مبدأ الفضيلة -خضوع المصلحة الخاصة بشكل طوعي للصالح العام- لأن المواطنين هم ضمان القانون؛ فالفضيلة يجب أن تمكنهم من مواجهة واجباتهم وحقوقهم المدنية.

مبدأ الحكومة الملكية هو الشرف: يجب أن يسمح ميثاق الشرف لهيئات الامتياز، التي تُسند إليها المسؤوليات، بأداء مهمتها؛ وتسمح الآلية الدستورية بضبط اللعب الحر للأنانيات.

مبدأ الحكم الاستبدادي هو الخوف: "من الضروري (…) أن يتغلب الخوف على الشجاعة ويطفئ حتى أدنى شعور بالطموح".

  • نظرية القوى الوسيطة

يؤيد مونتسكيو نظاما ملكيا معتدلا، حيث لا يستطيع الملك أن يستسلم لإغراء التحول إلى طاغية، ولا الشعب لغرائز التحرر الاستقلالي؛ وكمثال على هذا التوازن، يستشهد بالنظام الملكي الإنجليزي، الذي يتميز حسب رأيه بـ"حرية الأشخاص الشرفاء المحميين من القوانين"، والفصل بين السلطات، وقوة التجارة والرخاء العام.

علاوة على ذلك، فإن دور هيئات الامتياز هو ضمان السلام الداخلي للمملكة، والأمر متروك لهذه "السلطات الوسيطة والتابعة والخاضعة"، للحفاظ على توازن معين داخل الدولة.

الليبرالية السياسية

كان لأفكار مونتسكيو، المفكر الليبرالي، تأثير عميق: فقد استعار مشرّعو المجالس الثورية منه مبدأ الفصل بين السلطات وبرنامجا كاملا للإصلاح. ومثّل فلاسفة قرنه الآخرين، الذين اعتمدوا في تفكيرهم على العلوم الإنسانية، وكان للتحليل السياسي لمونتسكيو دائما بُعد أخلاقي مهم.

لكن رغم تطلعه إلى تغيير معين، إلا أن مونتسكيو يعلم أن "كل شيء موجود في الجسم السياسي"، ومن ثم فإن التغيير صعب، ويقول إن "أمر اقتراح التغييرات متروك للمحظوظين الذين وُلِدوا لاختراق دستور الدولة بأكمله بضربة عبقرية".

Charles Montesquieu
مونتسكيو يعد من أهم الفلاسفة الذين ساهمت أفكارهم في التمهيد للثورة الفرنسية (غيتي)

الوظائف والمسؤوليات

  • سنة 1713 توفي والده فورث عنه لقب "بارون لا بريد".
  • في سنة 1714 بدأ حياته المهنية الرسمية وأصبح مستشارا في برلمان بوردو. دخل خلال مسيرته المهنية أولا إلى غرفة التحقيقات ثم غرفة تورنيل (القضايا الجنائية).
  • عام 1716 توفي عمه جان بابتيست دو سيكوندات فورث منه منصب رئيس برلمان بوردو (الذي كان في ذلك الوقت هيئة قضائية وإدارية بشكل رئيسي)، وهو أحد أعلى مناصب العدالة.
  • في الثالث من أبريل/نيسان 1716 انتخب لعضوية أكاديمية العلوم والآداب والفنون في بوردو. وبعد شهرين من دخوله الأكاديمية نشر أطروحة عن سياسة الرومان في الدين. وأصبح يكرس الكثير من الوقت للنشاط الأكاديمي: يشارك بجد في المجالس والمناظرات ويكتب التقارير والتجارب العلمية؛ ومن بين كتاباته، أطروحات عن الفيزياء والطب وما إلى ذلك.
  • ترأس الجلسات عندما عمل مديرا لأكاديمية بوردو في الأعوام 1718 و1726 و1735 و1748. وفي عام 1751، طُلب منه أن يكون عضوا في الأكاديمية التي أسسها الملك ستانيسلاس في نانسي.
  • سنة 1723 مكنه تجاوزه سن الـ40 من الاستفادة بشكل كامل من حقوقه وامتيازاته رئيسا وقاضيا. وفي عام 1726 تخلى عن منصبه وباع مصلحته في مكتبه واستقال من البرلمان. لكنه استمر في حمل اللقب الفخري للرئيس.
  • في الخامس من يناير/كانون الثاني 1728 انتخب عضوا في الأكاديمية الفرنسية ثم عام 1746 في أكاديمية برلين. وسنة 1751 بدأ في التعاون مع موسوعة كان يشرف عليها دينيس ديدرو ودالمبيرت وسميت أيضا قاموس العلوم والفنون والمهن، وكانت لا تزال حينها في مراحلها الأولى وظهر مجلدها الأول في الأول من يوليو/تموز 1751، وهي عمل رمزي لعصر التنوير.

المؤلفات والإنجازات

من مؤلفاته الرئيسية:

  • "الرسائل الفارسية" (1721)، كتبها بين عامي 1717 و1720، وهو أول عمل لمونتسكيو، نشرها بشكل مجهول عام 1721. وفي مواجهة حجم النجاح، وبينما كان يتردد على الصالونات الباريسية، اعترف بنفسه مؤلفا لها.
  • "ملاحظات حول أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم" (1734)، كتبه بعد جولة في أوروبا.
  • "في روح القوانين" (1748)، نشر هذا العمل أيضا دون الكشف عن هويته، وهو عمل أساسي لتاريخ القانون والمثل الديمقراطية.
  • "مقالة في سياسة الرومان في الدين" (1716).
  • "اختبار المذاق" عام (1757): مقالة نُشرت بعد وفاته.
  • تم تكريمه بالعديد من الجوائز والأوسمة الأدبية، وتحمل العديد من المؤسسات اسمه.
غلاف الرسائل الفارسية
كتاب الرسائل الفارسية لمونتسكيو (الجزيرة)

كتب منعتها الكنيسة

وضعته بعض كتبه في مواجهة الكنيسة والسلطات، فقد نشر كتاب "الرسائل الفارسية" (1721)، بدون اسم المؤلف، وهو في الـ32 من عمره. وهو عمل نقدي للمجتمع الفرنسي تحت وصاية "دوق أوريان"، ومنعت الكنيسة قراءته. واضطره نجاح الكتاب إلى الاعتراف بتأليفه.

وفي سنة 1748 ألف "روح القوانين"، ونشره أيضا دون الكشف عن هويته، وقد أثار جدلا كبيرا: فقد أطلق اليسوعيون والينسنيون (أتباع عقيدة مسيحية حول الخلاص والقدر) ضده اتهامات بالإلحاد واللادينية والهرطقة، وهو ما دحضه في كتابه "الدفاع عن روح القوانين" (1750).

ولم يمنع النجاح الباهر للكتاب في جميع أنحاء أوروبا من استئناف مناهضته التي انتهت بأن أدانت جامعة السوربون العمل وأدرجته الكنيسة في القائمة السوداء ومنعت قراءته عام 1751، رغم الجهود التي بذلها "دوق نيفيرنيس"، السفير الفرنسي في روما شخصية نافذة.

بعد ذلك اضطرت السلطات، رغم المعارضة الأولية التي أبداها القاضي هنري فرانسوا داجيسو، للسماح بطباعة العمل في باريس، والذي اعترف ولي العهد بأنه "كان بين يديه بالفعل" قبل ذلك.

ومنذ تلك اللحظة تم الاعتراف بمونتسكيو، بدعم من الفيلسوف الفرنسي فولتير بالخصوص، باعتباره أحد أبرز فلاسفة عصر التنوير.

الوفاة

في السنوات الأخيرة من عمره تراجع في التأليف، خاصة بعد أن أدانت جامعة السوربون كتابه "روح القوانين"، كما تنقل في هذه الفترة بين باريس وبوردو، وتفرغ لكتابة العديد من الأعمال رغم إصابته بالعمى.

توفي في العاشر من فبراير/شباط 1755، في منزله بباريس في شارع سان دومينيك، بعد إصابته بحمى شديدة، ترجعها بعض المصادر إلى إصابته بالحمى الصفراء، في حين تتحدث مصادر أخرى عن إصابته بالتهاب في الصدر.

وتم دفنه في اليوم التالي في مقبرة القديسة جينيفيف التابعة لكنيسة سان سولبيس في باريس. ولم يسر في جنازته من الكتاب والفلاسفة سوى الفيلسوف ديدرو.

أراد مجلس الحكماء أثناء الثورة الفرنسية (1796) أن يمنحه "وسام البانثيون"، كما فعل مع فولتير وجان جاك روسو، لكن لم يتم العثور على قبره ولا رفاته، حيث تم تدنيس كنيسة القديس سولبيس ومقبرتها خلال أعمال الشغب.

المصدر : مواقع إلكترونية