200 يوم من العدوان: عوامل تعاظم التضامن الشعبي الأوروبي مع فلسطين ومآلاته

فظاعة الجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال ضد غزة تشكل وقودًا لحراك التضامن ولأصحاب الضمائر الحية في أوروبا (غيتي)

تعطي مؤشرات مقارنة مباشرة للإحصاءَين التوثيقيّين المصورَين اللذين أجراهما المركز الأوروبي الفلسطيني للإعلام ومقره مدينة روتردام الهولندية، مع فارق زمني معتبر ممتد بين الدراستَين، تقديرات بتعاظم وتصاعد ملحوظ في أوروبا للحراك الداعم للشعب الفلسطيني المكلوم في غزة.

فقد رصد المركز المذكور حجم المظاهرات والفعاليات التضامنية مع الشعب الفلسطيني في عموم القارة الأوروبية، سواء من ناحية العدد أو التوزّع الجغرافي بعد الــ 90 يومًا الأولى من العدوان من ناحية – ونشره في حينه – والمسح الثاني الذي تمّ نشره الإثنين 22 أبريل/ نيسان الجاري عشية انقضاء 200 يوم على العدوان، والعينة التزمت المعيارية بأن تُجرَى الدراستان على  نفس الدول الـ 17 في أوروبا، بفارق دولة صغيرة زيادة مع اختلاف الفترة الزمنية.

تنوع حركة التضامن

لقد كشف الرصد ارتفاع عدد المظاهرات بما يقارب الضعفَين، ما بين 6211 فعالية في الإحصاء الأول إلى الوصول صعودًا لـ 15200 فعالية في المسح الحديث، واللافت أيضًا زيادة في عدد المدن التي تم تنظيم أنشطة فيها إلى 568 مدينة بزيادة 139 في نفس عدد الدول، حيث  كانت 429 مدينة.

وهناك من المشاركين والمتابعين والمهتمين بالأنشطة المناصرة للقضية الفلسطينية في عدة دول أوروبية من يعتقدون أن أعداد الفعاليات أكثر وأضخم من الإحصائيات المذكورة في الرصد أعلاه، وأن الأنشطة أصبحت تقام بتلقائية وآنية ومنوّعة، ويتم تنظيمها بالإضافة للعواصم والمدن الرئيسية في ضواحي المدن وبلداتها.

وأضحت الفعاليات ضمن نظام الحياة الطبيعي للمتضامنين، وأنها في طبيعتها ليست بالضرورة أن تكون ميدانية، فقد تكون على شكل مقالات إعلامية أو أنشطة على منصّات التواصل الاجتماعي، أو أن تكون عرائض احتجاجية سياسية، وأنه من الصعوبة بمكان أن نصل لإحصاء دقيق جدًا لحجم التفاعل في عموم مدن أوروبا.

وكمثال لطبيعة الأنشطة الموازية والتلقائية قوية التأثير والتي تحسب عدة أنشطة في نشاط واحد: نصب خيام اعتصام من قبل متضامنين ألمان على مدار الـ 24 ساعة في الليل والنهار، أمام البرلمان الألماني لمدة عشرين يومًا متواصلة، أو كمثال آخر، تلك المسيرة الراجلة التي استغرقت 12 يومًا من باريس لبروكسل وانتهت بتظاهرة أمام البرلمان الأوروبي والدخول للبرلمان ومقابلة البرلمانيين، فلا يمكن حسابها بنشاط واحد، فكل مدينة وبلدة توقفت فيها المسيرة وبعدد الساعات، طوال الطريق تعد نشاطًا بحد ذاتها بحساب التفاعل التضامني.

وبالعودة للتوثيق المصور الحديث للمركز الإعلامي المذكور آنفًا، فالمتابع يلحظ جماهيرية المظاهرات وكثافة عدد المتظاهرين، والتنوع في طبيعتهم من ناحية الأعراق والأعمار والأجناس والاختلاف الثقافي والأيديولوجي والسياسي، وهو اللافت من خلال الشعارات المكتوبة والهتافات، ومن الشخصيات السياسية والنقابية والإعلامية. ويجمع ويوحد بين كل هذه الجموع والحشود الوقوف صفًا واحدًا دعمًا للقضية الفلسطينية.

وهناك أسئلة برسم الإجابة في السطور التالية: في أي بيئة تتحرك هذه الفعاليات، وهل من معوقات؟ وما هي العوامل التي أثرت إيجابًا ودفعًا لهذا التصاعد لحركة التضامن وتماسكها خلال ما يقرب من سبعة أشهر من العدوان؟ وما هي المآلات المستقبلية لهذا التفاعل في المدى الزمني القريب والمتوسط والبعيد، على حد سواء؟

مواقف منحازة

إن المواقف الرسمية للاتحاد الأوروبي بشكل جماعي والمواقف القُطرية لمعظم الدول في القارة منذ اندلاع الأحداث في بداية أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2023 تشكل انحيازًا واضحًا لدولة الاحتلال في ممارستها جرائم الإبادة الجماعية، وسياسة التطهير العرقي والتجويع ضد الشعب الفلسطيني في غزة.

وهذا تم ترجمته بأشكال الدعم السياسي والقانوني والعسكري واللوجيستي والإعلامي. ومن أشكال الدعم تكميم الأفواه التي تدعم حقوق الشعب الفلسطيني، ومحاولة الحد من المظاهرات وأحيانًا منعها، والدخول بتفاصيل مضامين الشعارات والتعبير، ويتجلى ذلك بأوضح صوره في ألمانيا، والمثال الصارخ ما حصل مع إيقاف مؤتمر برلين والذي كان بين 11 إلى 13 من أيريل/ نيسان من الشهر الجاري، حيث تمّ اقتحام القاعة وإخلاؤُها من المؤتمرين بعد قطع الكهرباء وإيقاف المؤتمر، ثم مظاهر استخدام العنف المفرط مع المتظاهرين وأمام عدسات الكاميرات بادعاء مخالفتهم القانون.

وهذا كله يشكل تهديدًا وترويعًا للمتضامنين، وينعكس تفشيًا لحالة من التردد عند بعضهم، ونشير أيضًا لطريقة تعامل الاتحاد الأوروبي مع اتهامات دولة الاحتلال لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) والتردد في دعمها بل وإيقاف المنح عند بعضها لفترة، وما زال الملف مفتوحًا.

ومن المهم التأكيد أنه رغم تزحزح المواقف السياسية الأوروبية قليلًا نحو التوازن، فإنها لم ترقَ لأن تتحول لإرادة سياسية للضغط على دولة الاحتلال وإيقاف العدوان. وهذا يشكل حالة من الإحباط لدى المتضامنين لعدم استجابة السياسيين للمطالب الجامحة لحراك الشارع، ومطالبه الواضحة بإيقاف فوري للعدوان ورفع الحصار وإدخال المساعدات وملاحقة مجرمي الحرب.

ونستثني مواقف تقدُّمية لإسبانيا وأيرلندا وبلجيكا وكذلك سلوفينيا ومواقفها الرافضة للعدوان والجرائم، بل وذهابها بعيدًا في دعم ملف جنوب أفريقيا في محكمة العدل الدولية في لاهاي ضد دولة الاحتلال باتهامها بارتكاب جرائم حرب وتطهير عرقيّ.

تطور ملحوظ

ولعلّ هذه المواقف الرسمية لهذه الدول تشكّل مدخلًا لشرحٍ مجملٍ حول طبيعة العوامل التي أثرت إيجابًا في التطور الملحوظ والمطرد للأنشطة التضامنية والفعاليات، ليس فقط داخل هذه الدول، بل وسرى أثره عند بقية حركة التضامن في دول أخرى، فمثلًا إقامة أيام تضامنية شاملة منسقة في عموم إسبانيا لعدة أيام متفرقة وصل في أحدها لإقامة أنشطة تضامنية في 116 مدينة مختلفة في يوم واحد، و100 في يوم آخر، وكيف أصبح ذلك نموذجًا ملهمًا.

إن فظاعة الجرائم التي ترتكبها دولة الاحتلال ضد أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، والحجم الهائل للضحايا – ما يزيد على 34 ألف شهيد و77 ألف جريح، معظمهم من الأطفال والنساء وكبار السن خلال 200 يوم، وامتداد هذه الجرائم كل هذه الفترة، ومأساوية القصص للألم العميق الذي يعانيه الغزيون – كل ذلك يشكل وقودًا لحراك التضامن ولأصحاب الضمائر الحية في أوروبا، بل وحول العالم.

وهنا فقد شكّل الإعلام المتواجد والعامل في غزة وخصوصًا شبكة الجزيرة وأذرعها في نقل الأحداث أولًا بأول ولحظة وقوعها، تفاعلًا دائمًا للمتضامنين مع الأحداث، ووقوفهم بدقة على حجم وعظم الجرائم. وبشكل موازٍ وفي نقطة الإعلام أيضًا فإن ما يقوم به أهل غزة من إعلام ذاتي وبمبادرات فردية، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي من نشر قصصهم ومآسيهم، ضمن اتساع وصول الرسالة لكل المهتمين والمتضامنين، شكّل ذلك حافزًا حيويًا لاستمرار حراك التضامن.

كما أن جرائم الاحتلال وتنوّعها واستهداف كل ما هو معرّف دوليًا بأن له حصانة بل وقداسة، كالمستشفيات وما فيها من مرضى وطواقم طبية، وتهديم وتدمير بنيتها التحتية، وكذلك دور العبادة من مساجد وكنائس، واستهداف الصحفيين واغتيالهم بالعشرات، كل هذا فتح أعين العالم على حقيقة دولة الاحتلال وفظاعة فعلها، وحوّل شعوب أوروبا إلى قوة هادرة داعمة للقضية، وهذا ما تعكسه أيضًا استطلاعات الرأي في عدة دول أوروبية.

تنسيق وتماسك

وفي هذا السياق أيضًا فإن ما ينقله الغزّيون عن أنفسهم وما ينقله الإعلام عنهم من إرادتهم الصلبة وتمسكهم بحقوقهم، ورفضهم التهجير، وصبرهم على كل أنواع الألم والتعذيب والتجويع، وفقدان الأحبة ومن أقرب المقربين وبالعشرات، ومقابلة ذلك بأشكال عزّ نظيرها في العالم من الصبر والتسليم بقضاء الله وقدره، وأيضًا طرق تسييرهم شؤون حياتهم بأبسط الوسائل ومن العدم،  كل هذا وغيره أصبح ملهمًا وسرت قصصه وحكاياته في ضمائر ووجدان المتضامنين، وتحول إلى فعل تضامني مستمر ومتنوع.

وامتدادًا لممارسات دولة الاحتلال وشراستها، فإن العجرفة التي يتّصف بها السياسيون الإسرائيليون وتصريحاتهم العنصرية بحقّ الفلسطينيين بل ويتعدّى ذلك لأداء دبلوماسييهم بحقّ شخصيات وهيئات عالمية، وهناك مثالان صارخان هما سفير دولة الاحتلال في الأمم المتحدة وأداؤه في الجلسات الرسمية، وأيضًا سفير دولة الاحتلال في بولندا الذي رفض الاعتذار للشعب البولندي وبعنجهية عن جريمة اغتيال المتطوع البولندي دمبان سوبول الذي قتل ومعه زملاؤه السبعة المتطوعون مع المطبخ العالمي، وذلك بصواريخ الطائرات العسكرية المسيرة لجيش الاحتلال، وفي وضح النهار وسط غزة، ولعل هذا موقف ساهم في تصاعد واضح في الحراك التضامني البولندي مع الشعب الفلسطيني. وهذه المواقف العنصرية تغذي بشكل مطرد حراك التضامن عبر الدول الأوروبية.

ونذكر من العوامل أيضًا التي ساهمت في تصاعد حراك التضامن واستمراره بوتيرة ثابتة، هو قوة التنسيق والتماسك بين المؤسسات العاملة لفلسطين في دول أوروبا المختلفة وبشكل اقتربت به هذه المنظمات من بعضها، وتعمق التنسيق بينها، مما انعكس على قوة الأداء وتميز المظاهرات وتصاعدها، ونخص هنا وضوح مظاهر الوحدة الوطنية الفلسطينية في القارة الأوروبية، وأبرز مثالين: اللجنة الوطنية الفلسطينية الموحدة في برلين، ولجنة العمل الفلسطيني في جنوب السويد، وكيف انعكس رسوخ العلاقة الوطنية على الأداء الجيد للفعاليات والتنسيق المحكم مع المتضامنين بالتوازي في المنطقتين.

ونرى أن عراقة العمل التضامني في البلدان الأوروبية المختلفة، وامتداده بالخبرة عبر عقود خلت، ساهما في صمود حركة التضامن أمام التحديات، وكذا استيعاب المنخرطين الجدد في الحراك، وخاصة من الأجيال الجديدة. بل وتطور ذلك أحيانًا للتنسيق على مستوى القارة، كما حصل في حراك التظاهر الأوروبي في لاهاي؛ لدعم ملف جنوب أفريقيا.

تنافسية محمودة

إن تطور الأداء الإعلامي للحراك التضامني، ونقل النشاط على الهواء مباشرة عبر المنصات الإعلامية، وبالتوازي اهتمام القنوات الفضائية العربية والأوروبية بنقل أحداث الفعاليات، أضحى كل ذلك عاملًا محفزًا لأن يلمس المتظاهرون أثر فعلهم، وأن رسالتهم السياسية تصل لأوسع نطاق، مما رسّخ قناعة لدى شريحة واسعة بجدوى التظاهر، ووصول الرسالة لكل المعنيين بالتقاطها.

وهذا أوجد حالة تنافسية محمودة بين المؤسّسات في الأقطار الأوروبية المختلفة؛ لرفع مستوى أدائها، بل وساهم في تطبيق أفكار ومشاريع تضامنية ثبت نجاحها. وضمن أن تبقى كل المؤسسات في البلدان في حال تفاعل مستمر؛ نتيجة نقل المظاهرات الدائم. وساهم وجود مراسلين للقنوات العربية المهتمة بالقضية في عدة عواصم أوروبية، في أن تبث تقارير دورية عن الأنشطة والفعاليات. ونذكر أيضًا وجود قنوات مختصة للبثّ المباشر ونذكر منها: " الجزيرة مباشر"، وحرصها على نقل المظاهرات جعل منها ومثيلاتها  منصات دائمة وفورية لبثّ الأنشطة والفعاليات التضامنية الأوروبية، مما انعكس إيجابًا وحيوية على استمرار الأنشطة وتصاعدها.

وهناك عوامل عديدة منوّعة وتحتاج توقفًا وتفصيلًا لأهميتها في تصاعد حراك التضامن، منها دخول مؤثرين في المجتمعات الأوروبية على خط التضامن، وتماسكهم في استنكارهم للمجازر، رغم ضغوط اللوبي الداعم لدولة الاحتلال، وكمثال الممثل الألماني الكوميدي المخضرم ديترهالرفوردن في فيديو له لمدة ثلاث دقائق، اتهم دولة الاحتلال بارتكاب "الإبادة الجماعية".

وعلى مستوى آخر، فقد شكلت القضية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد دولة الاحتلال، وانعقاد محكمة العدل الدولية في لاهاي يوم 26 يناير /كانون الثاني من هذا العام والمشاهد التاريخية لامتثال دولة الاحتلال والمثول في موقع الاتهام، ولحقتها نيكاراغوا ضد ألمانيا في 8 أبريل/ نيسان، على التوالي تأسيسًا على الأولى، كان لذلك الأثر البالغ إيجابًا على حركة التضامن، ومثال آخر في ألمانيا أيضًا، حيث رفع محامون قضيةً كممثلين عن ضحايا غزيين ضد سياسيين ألمان، وعلى رأسهم المستشار الألماني، وقبول المحكمة النظر في القضية لدعمهم لدولة الاحتلال، وكان التأسيس القانوني مبنيًّا على مرافعة جنوب أفريقيا في لاهاي والحكم الصّادر بحقّ دولة الاحتلال ومن يساندها.

ونخلص أن هذا الحراك التضامني المتصاعد والمنوّع والممتدّ، شكّل تحولًا إستراتيجيًا في حضور القضية الفلسطينية وعدالتها، وساهم في اتساع حركة الوعي الأوروبي الشعبي بحقيقة ما يجري في فلسطين، والمواقف الحقيقيّة للأطراف، وتجلّى له ممارسات دولة لاحتلال الإجرامية بكل تفاصيلها.

وإن تحول هذا الوعي، واستيعاب السردية الفلسطينية وعدالتها قد أنتجَ ذلك فعلًا تضامنيًا راسخًا، مما سيجعل ذلك ممتدًا وعابرًا للزمن في المستقبل، وقد أضحت دولة الاحتلال معزولةً عالميًا، والدور يقع على الفلسطينيين وداعميهم باستثمار ذلك وتنميته وتطويره، والزمن لا يرجع للوراء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.